تكلم حتى أراك

" من أنا ﻷقول لكم ما أقول .. " كانت هذه بداية النهاية. بعدها تساقطت لحظات حياته أمامه كما تتساقط الأوراق في الخريف، تاركةً الغضن، تَنبِئُ بقدوم فصل جديد، لكن أوراقه لم تكن تُنبِئُ بالمثل.


تبدأ القصة حينما بدأ التمرد على ما أُرغم عليه، حينما بدأ ينضُج، من هنا تبدأ كل المشكلات، ألا تتفق معي؟. صار الوضع لا يحتمل، فقط يريد أن يخرج من الشرنقة التي أُرغم أن يبقي بها حتي يشتد عوده وتقوي أجنحته على الطيران، لكنهم بدون قصدٍ كسروها له ﻹرغامه على ما يريدون له من مستقبل. كان غِرِاً ﻻ يعلم أي شئ عن الحياة وكانوا هم من ينيرون له الطريق، كانت تبشيراتهم له أمله في الوصول والطيران.


وعلى عكس ما كان يتوقع، كانت تبشيراتهم له أحد أهم أسباب فقدانه للشغف، فقد نفسه في خضم الصراع القائم للخروج من ظلهم والتغلب على الصدمات التي صادفها في الطريق. صارت كل معتقداتهم هشه ﻻ تحتمل أي تساؤل، كانوا ﻻ يملكون له أي تفسير سوي " هذا ما وجدنا عليه أبائنا " ولم يكن يريد أن يعش كما عاش أباؤهم، سحقاً لهم ولمن جاء بهم.

تطرق لكل ما كان  يُمنع عنه، لم يخض في الكثير ولكنه ألمَّ بالكثير منه، بالذي يفعله، بماذا يعود عليهم، هل من طريقةٍ للتخلص مما يقومون به والكثير من الغلط الشائع حول هذه الممنوعات التي ﻻ يعلم عنها شيئاً سوي أنه ممنوع من القيام بها دون أسبابٍ موضحة. لم يكن الدين أساس بحثه ﻷن الدين يمنع الأشياء دون تفسيرٍ واضح سوي أن الرب قد منعها وﻻ ينبغي علينا أن نتناقش فيما منعه الله عنا. قد نقبل أن الله أمرنا بالصلاة خمس مراتٍ، أو أن نذهب للكنيسة كل أحدٍ لنصلي أو نتبرك، لكن لِمَ هو فرض؟ لماذا ﻻ يُسمح لنا في أن نتناقش في المفروض؟ والكثير مما فُرضَ علينا عرفياً يقدس كما نقدس الذات الإلهية.

تناول الكثير من خيبات الأمل، فقد الكثير نوره، تجرع من الذنوب ما صلَّب الروح في جسده. صارت  الفرحة كالماء المار على الحجر الصلد، ﻻ يسمن ويغني من جوعٍ.


لم يُملأ سوي بخيبة الأمل والصراع المتواصل مع تغيير الوضع إلى أحسن حال، ألم نُخلق لنكافح ونكابد من الحياة الكثير من الألم؟ وكما هو مذكور " ولقد خلقنا الإنسان ونعلم ما توسوس به نفسه ، ونحن أقرب إليه من حبل الوريد " ؟ لم يكن يعلم كيف يعلم ما توسوس به نفسه ويظل هكذا على هذه الحال دونما تغير، ظل يبحث ويسعى حتي يصل بهذا الوضع إلي ما يأملُ ويطمحُُ إليه.


لم يكن يتألم في آخر القصة، لم يكن يشعر بشئٍ على الإطلاق، فقط فراغ يملأ المكان، لم تكن لحظات السعادة تثير أي شئ بداخله، كان يبحث عن شئٍ يهز كيانه، يجعله يشعر بالزلزال المصاحب لشئ قوي التأثير، كان كما ثابتاً كمؤشر ضربات القلب لشخص ميت، خطٌ مستقيمٌ حاسمُ الدلالةِ.


لم يكن يهوي نفسه، كان يعلم جيداً أنها قميئة، لم يكن يعلم كيف يأمن الناس شرَهُ، يعلم جيداً أن لولا ذلك السترُ الخفي لما كانت الدنيا كما هي عليه الآن، كان سيلقي في محرقة اللوم وعذاب النظرةِ الدونية، سينال ما يستحقه بالفعل، سيكون ما يستحق.


كان بارعاً في إراحة الناس، أن يحلل لهم ما يكابدون من عناءٍ ويتفهم جيداً ما يعانون من بضع كلمات وردود أفعالهم حين بداية السرد. كانت ملكتُهُ أنه يعلم متي يتكلم وماذا يقول، يعلم جيداً أن الصمت هو الحل الفعال وأن عليه فقط أن يستمع جيداً، وأنه ستحين اللحظة للتدخل الحاسم والنصح.

" فاقد الشئ ﻻ يعطيه " هذا المعتقد المغلوط فقد معناه حينما بدأ التمرد، وجد أنه فاقدٌ للكثير لكنه أفضل من يعطيه، بدأ يزهد في الكثير، لكنه لم يكن الزاهد بالمعني الحرفي، لم يترك ما يريد بإرادته، تركه ﻹنه لم يجد أملاً في الوصول إليه، كان مُعلقاُ بين نارين، كان بين نار الوصول ونار الفقد.


كان المنبوذ الشاذ بأفكاره، حالت ميوله عن البوح بها ﻷنه لم يكن يملك الطاقة للدفاع عنها، أضاف على هذه النقطة أن من سيشاركه هذه الاهتمامات سيكون جديراً بها، دون الخوض؛ لم يعلم الكثير عن اهتماماته، عن كيف يريد أن يلقي الموت، ما يخاف حد الموت، كيف أحب الموت ولم يكن يرى أن في الموت شيئاً يستدعي الحزن، فقط كان يرى أنه ﻻ بد من نهاية تُكتب لكل تلكم القصص، أن للحزن نهاية وأن للفرح نهاية كل شئ يستحق نهاية، سواءً كانت سعيدةً أم حزينة.


انتهت حياته عكس ما توقع الجميع، مات وحيداً دون أي رفيق، تناول فطوره المفضل، احتسي قهوته الفرنسية بدون سكر، تحدث مع ربه عن " بكره راح يخلص هالكابوس، وبدل الشمس بتضوي شموس" فنال شمسه التي ينتظر، على كرسيه المفضل.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

في رثاء عزيزةٍ

Mania -1

نعكشه